فصل: باب: في طهارة المتحيرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نهاية المطلب في دراية المذهب



.باب: في طهارة المتحيرة:

522- التفريع على قول الاحتياط:
قال الشافعي: "هي مأمورة بأن تغتسل لكل صلاة مفروضة "؛ إذ لا يدخل وقتٌ إلا ويحتمل أن يقدر فيه انقطاع حيضها. فإذا اغتسلت لصلاة الصبح مثلاً، وصلّت، ثم دخل وقت الظهر، فمن الممكن أنها اغتسلت وصلت الصبح في زمان الحيض، وإن حيضها إنما انقطع بعد الزوال، ثم يطَّرد ذلك في جميع أوقات الصلوات؛ فاقتضى ذلك أمرَها بالغُسل لكل صلاة مفروضة.
ثم الغُسل في حقها كالوضوء في حق المستحاضة، فيما ذكرناه من الأمر بتجديده لكل فريضة.
523- وقد ذكرنا ترددَ الأصحاب في أن المستحاضة لو توضأت في الوقت، فهل يجوز لها أن تؤخر إقامة الصلاة عن الفراغ من الوضوء، أم يلزمها تعقيب الوضوء بالصلاة؟
فأما الغُسل في حق المتحيرة، فقد ذهب ذاهبون إلى أنه يجري مجرى الوضوء في التردّد الذي ذكرناه من اشتراط البدار إلى إقامة الصلاة، وهو وهمٌ وغلط من قائله، والسبب فيه أنا إنما أوجبنا على المستحاضة في وجهٍ ظاهرٍ تعقيب الوضوء بالصلاة؛ حتى تقلّ أحداثها؛ إذ لو أخرت، لتجددت أحداث مستغنىً عنها، وهذا لا يتحقق في الغسل؛ فإن عين الدم ليس من موجبات الغسل، بل إنما الموجب له انقطاع الحيض، وليس هذا مما يُتوقع تكرره في أزمنة تتخلل بين الغسل والصلاة.
وإن قيل: إذا اغتسلت وأخرت الصلاة، فلعل غُسلها وقع في الحيض، وإنما انقطع بعد الفراغ منه، فهذا المعنى لا يختلف تقديره بأن يقصر الزمان أو يطول؛ فإن ذلك ممكن تقديره وإن قرب الزمان، وما لا حيلة في دفعه يُقرّ على ما هو عليه.
نعم، إن اغتسلت وأخرت إقامة الصلاة، فيتوجه أن نأمرها بتجديد الوضوء قبل الصلاة، حملاً على أنَّ ما رأته دمُ الاستحاضة، وقد كثر وتكرر، ولو وصلت الفراغَ من الغسل باستفتاح الصلاة، لكانت لا تحتاج إلى الوضوء.
وهذا تفريعٌ على أن المستحاضة ليس لها أن تؤخر الصلاة عن الفراغ من الوضوء.
524- ومما يتعلق بغُسل المتحيرة أن الأئمة قالوا: إنما تغتسل في الوقت؛ لأنه طهارة ضرورة، فأشبهت التيمم، وقد ذكرنا وجهاً ضعيفاً في المستحاضة: أنها لو فرغت عن الوضوء مع أول وقت الصلاة، ثم صلّت على البدار، أجزأها ذلك؛ تفريعاً على إيجاب وصل الصلاة بالفراغ من الوضوء وكان هذا القائل يرى أن الغرض هذا في أمر الوضوء، لا إيقاعه في الوقت.
فقال قائلون: إذا رأينا ذلك في الوضوء، فنطرد ذلك القياس في غُسل المتحيرة أيضاً، ونقول: لو اغتسلت وأوقعت الفراغ من الغسل مع أول الوقت وصلّت، جاز، وهذا هو الغلط الأول الذي ذكرنا؛ فإنه لا معنى لرعاية الانفصال والاتصال بين الصلاة والاغتسال، وإنما يتأتى ذلك في وضوء المستحاضة، فالوجه القطع بإيقاع الغسل في الوقت؛ فإنه طهارة ضرورة، فأشبهت التيمم.
ثم إذا اغتسلت للفريضة، تنفلت ما شاءت كالتيمم.

.باب: في صلاة المتحيرة:

525- هي مأمورة بإقامة الصلوات كلِّها ما دامت بحالتها وحيرتها على القول الصحيح.
وقد نصّ الشافعي على أمرها بالغسل وإقامة الصلوات في مواقيتها، ولم يتعرض لإيجاب قضاءٍ بعد صدور صورة الأداء منها، مع تفريعه على الاحتياط.
وقال الشيخ أبو زيد المروزي: يلزمها القضاء مع الأداء؛ فإنها إذا أدت صلاة الصبح في أول الوقت، أو وسطه، فيحتمل أن حيضها انقطع في آخر الوقت، وأن الغسل والصلاة وقعا في زمان الحيض، فيلزمها-مع ما قدّمته- القضاءُ.
وكذلك يجري هذا الاحتمال في كل صلاة من الصلوات الخمس، وإذا فتحنا باب الاحتياط، فيلزم طرده في جميع وجوه الاحتمال؛ إذ ليس وجهٌ أولى بالاعتبار من وجه.
526- وقد اختلف المحققون في نص الشافعي، فقال قائلون: المذهب المبتوت ما ذكره أبو زيد، والشافعي فتحَ باب الاحتياط، ونبه على الاحتمالات كلّها، ولم يستقصها؛ فما ذكره ذوو الفطن من أصحابه على القاعدة التي أسسها، هو عين مذهبه.
والشافعي، كما لم يذكر إيجاب القضاء لم ينفه أيضاًً.
ولا يمتنع أن يقال: لم يخطر له الاحتمال الذي أدركه مَن بعده، ولو خطر، لحكم بموجبه.
527- ومن أئمتنا من يرى نفي القضاء مذهباً للشافعي، ورأى ما ذكره أبو زيد في حكم تخريج قولٍ منقاسٍ.
فوجهُ قول الشافعي إذاً على هذا، أن المتحيرة لو تعطّلت عن وظائف العبادات عمرَها، لكان بعيداً، ولو تحكّمنا بإثبات أدوراها على الأهلة من غير أصلٍ، لكان بعيداً، فاحتطنا حتى نقيمَ أوراد الشريعة، ولا تتعطل. فأما أن نحكّم في أمرها كلَّ ممكن، فهذا ينتهي إلى حد التعذيب، والشريعة تحط أموراً بدون هذا من الضرر.
وقد قال الشافعي في الصوم: إنها تصوم شهر رمضان، ثم تقضي خمسة عشر يوماًً. ولا يتأتى ذلك إلا بأن تصوم شهراً آخر. وسيأتي شرح هذا في موضعه، إن شاء الله تعالى.
وتعرّضه للقضاء في الصوم مع السكوت عنه في الصلاة يدل على أنه حاول الفرق بينهما؛ لأن قضاء الصوم يطَّرد غالباً على الحُيَّض، ولا يجب قضاء الصلوات التي تمر مواقيتها في زمن الحيض.
والدليل على أنا لا نراعي كلّ ممكن أن المتحيرة إذا طلقها زوجها، فإنها تعتد ثلاثة أشهر، كما سيأتي ذلك في الباب الخامس، ومن الممكن أن يقال: هي من اللواتي تباعدت حيضتها حتى تصير إلى سن اليأس، ثم تعتد بثلاثة أشهر، فدلّ على أنه لا يعتبر كلَّ ممكن، إذا عظمت المشقة وظهر الضرر.
والوجه: ما قاله أبو زيد؛ فإن مساق الاحتمالات تقتضي القضاء، وليس في إعادتها الصلوات كبيرُ ضرر.
528- ثم أطلق الأصحاب حكاية مذهب أبي زيد في إيجاب القضاء في الصلوات، ولم يستقصوا القولَ فيه، وأنا أقول مستعيناً بالله:
إنما أوجب القضاءَ لاحتمال انقطاع الحيض في آخر وقت كل صلاة، ورب انقطاعٍ يوجب تدارك صلاتين؛ فإن الحائض إذا انقطع حيضُها قبل غروب الشمس بمقدار يسع خمس ركعاتٍ، يلزمها قضاء الظهر والعصر جميعاًً. وكذلك المغرب والعشاء، لو فُرض الانقطاع آخر الليل. فهذا ما اعتمده أبو زيد في إيجاب القضاء، وهو واضح.
ولكن في المقدار المقضي كلام ذَهِلَ عنه معظم الأصحاب.
ثم في كيفية القضاء تفصيلٌ، لابد من الاطلاع عليه، وقد اتفق لبعض ذوي الفطن من المختلفين إليَّ فِكرٌ غائصة في جهات الاحتمالات، وعرضَها عليَّ، فارتضيتها، ولم أعثر على زللِ فيها، ولابد من إيداعها هذا المذهب.
وحق الناظر في هذا الفصل أن ينعم النظر ويتئد، ويعلم أن شفاء الصدور يحصل عند الفراغ من الفصل.
وأنا استفتح القول فيها، ثم أرقى في مسالك الاحتمالات شيئاً شيئاً، ثم ما يتأخر في مساق الكلام قد يَرْفع ما تقدّم، حتى يستقر الغرض في المنقَرَض، وسبيل التعليم فيما يتلقى من الاحتمالات يقتضي هذا التدريج.
529- فلتقع البداية بما ذكره الأصحاب عن أبي زيد، قالوا: المتحيرة تؤدي كلَّ صلاة في وقتها، ثم تقضيها لاحتمال وقوع الصلاة المؤدّاة في الحيض، مع اتفاق انقطاع الحيض في آخر الوقت. والحائض إذا انقطعت حيضتها في آخر الوقت؛ فإنها تلتزم الصلاة على ما سنقرر ذلك في كتاب الصلاة، في أوقات أصحاب الضرورات- إن شاء الله تعالى.
ثم قالوا: إذا صلت الظهر والعصر في وقتيهما، ثم غربت الشمس، وقد كانت اغتسلت لكل صلاة مؤدّاة في وقتها، فإن اغتسلت، وصلّت المغربَ، فرضَ الوقت، كفاها ذلك الغسل في قضاء الظهر والعصر، ولكنها تتوضأ لكل فريضة تقضيها لاستمرار الاستحاضة، كما ذكرناه في أحكام المستحاضات.
وسببُ الاقتصار على غسلِ في هذه الصورة أن سبب وجوب الغسل احتمال الانقطاع، وهذا بعينه سببُ إيجاب قضاء الظهر والعصر؛ فإن انقطع الدم قبيل الغروب، فقد اغتسلت مرة للمغرب، فلا يعود إمكان الانقطاع إلى مدة، كما سنكشف الغطاء فيه.
وإن لم ينقطع الحيض قبل الغروب، فلا يجب قضاء الظهر والعصر أصلاًً، فلا معنى للأمر بالغُسل لأجلها.
وهذا إذا صلّت المغرب أداءً، ثم أرادت قضاء الظهر والعصر.
فإن اغتسلت، وقضت الظهر والعصر، ثم أرادت أن تصلي المغرب، فلابد من غُسلٍ آخر لصلاة المغرب، لاحتمال أن القضاء في الظهر لم يجب، وأنها بعد الفراغ من صورة قضاء الظهر والعصر، قد انقضت حيضتها، فعليها أن تغتسل لصلاة المغرب لهذا، وهذا المقصود بيّن.
ولكن الغرض من مقصود الفصل يتبيّن في الآخر.
530- ثم قال المحققون تفريعاً على مذهب أبي زيد: إذا أوجبنا قضاءَ كلِّ صلاة، فنقول: إذا أرادت الخروج عنها، فلتغتسل ولتصلِّ صلاة الصبح في أول الوقت، بحيث تنطبق على الأول، ثم تغتسل وتصلي تلك الصلاة في آخر الوقت مرةً أخرى، وينبغي ألا توقع في الوقت إلا أقل من تكبيرة، أو ما دون ركعة، إذا قلنا: لا تدرِك التي تطهر الصلاةَ بإدراك الزمان الذي لا يسع ركعة تامة.
وإذا فعلت ذلك، خرجت عن عهدة هذه الصلاة؛ فإن الصلاة الأولى إن قُدّرت في الطهر، فقد حصل بها أداء الفرض، وإن وقعت في دوام الحيض، واستمر إلى انقضاء الوقت، فلا أداء عليها ولا قضاء، وإن قدّر انقطاع الحيض قبيل إنشاء الصلاة في آخر الوقت، فقد اغتسلت وصلّت، والانقطاع لا يتكرر كذلك.
وإن فرض انقطاع الحيض في أثناء الصلاة الثانية، فهذا التقدير لا يوجب الصلاة؛ فإنا صوّرنا إنشاء الصلاة الثانية على وجهٍ لو قُدّر انقطاعُ الحيض في أثنائها، لما وجب قضاء الصلاة، ولسقط الأداء والقضاء.
531- وإن هي أوقعت الصلاة الأولى في أول الوقت على تحقيق التطبيق، ولكنها أخرت الصلاة الثانية، وأقامتها قبل انقضاء خمسة عشر يوماًً، وابتداء المدة من أول وقت الصلاة، فتخرج أيضاًً عما عليها؛ فإن الأولى إن وقعت في الطهر، كفت، وإن فرض الانقطاع في وسط الوقت مثلاً، فالحيض إذا انقطع، لم يعد إلى خمسةَ عشر يوماًً، فتقعُ الصلاة الثانيةُ في الطهر.
فهذا إذا صلت مع أول الوقت، ثم فعلت في إعادة تلك الصلاة ما ذكرناه، فقد أدت ما عليها.
532- ولو صلت في أثناء الوقت أولاً، ثم صلت ثانية في آخر الوقت، كما سبق التصوير فيه، أو أخرت وصلّت في الزمان الذي رسمناه في الصورة الأولى، فلا تخرج عما عليها لجواز أنها كانت طاهرةً في أول الوقت، في زمان يتأتى إيقاعُ الصلاة التامة فيه، ثم طرأ الحيض، وقد لزمتها الصلاةُ بإدراك الطهر في أول الوقت، ثم أوقعت الصلاتين في استمرار الحيض، فتبقى تلك الصلاة في ذمتها.
فإذا أرادت الخروج منها، ولم يتفق منها الصلاة في أول الوقت، كما ذكرناه في الصورة الأولى، وقد صلت في أثناء الوقت، فعليها أن تصلي مرتين أخريين سوى ما صلت في وسط الوقت، وتقع الصلاة الثانية بعد انقضاء وقت الرفاهية والضرورة في الخمسة عشر، وابتداءُ الخمسة عشر من افتتاح الصلاة التي أقامتها في وسط الوقت، وتُوقع الصلاةَ الثالثة في أول السادس عشر، بحيث يكون بين الفراغ من الصلاة التي أقامتها في وسط الوقت وبين ابتداء الصلاة الثالثة خمسة عشر يوماًً، فإذا فعلت ذلك، خرجت عما عليها في تلك الصلاة، وإنما زادت صلاةً لتركها إقامة الصلاة في أول الوقت كما تقدم ذكر ذلك.
وتعليل خروجها عما عليها بثلاث صلوات على الترتيب الذي ذكرناه، أن الخمسة عشر المتخللة-كما تقدم- إن كانت طهراً، فقد وقعت فيها صلاة، وإن كانت حيضاً، فقد وقعت الصلاة الأولى والثالثة في الطهر.
وإن قدّرنا أن الحيضة ابتدأت في آخر الصلاة الأولى، فتقع هي والصلاة الثانية في الحيض، وتقع الثالثة في الطهر لا محالة.
واستقصاء القول في هذا يأتي في الباب المشتمل على قضاء الصوم والصلاة وبالجملة تأخيرها الصلاة عن أول الوقت ينزل منزلة ترك الصلاة؛ لجواز أن تكون طاهرة في أول الوقت، ثم يطرأ الحيض بعد مضي زمان يسع الفريضة من أول الوقت، فلابد من فرض صلوات.
533- ثم يحتمل احتمالاً ظاهر أن نوجب على المتحيّرة إقامة الصلاة في أول الوقت؛ فإنها لو علمت أن حيضها يبتدىء بعد انقضاء زمان الإمكان، فعليها البدار إلى إقامة الصلاة مع أول الوقت، ونحن في تفريع الاحتياط نجعل الممكن في حق المتحيرة بمثابة المعلوم المستيقن، ولا يمتنع على هذا الحكم أن يجب عليها إقامةُ الصلاة مرةً ثانيةً في آخر الوقت؛ لجواز وقوع الأولى في الحيض، وانقطاع الحيض في آخر الوقت بحيث يبقى من الوقت زمانٌ يسع الفريضة.
ولكن إن طبقت الصلاة الثانية على الآخر، بحيث يوافق التحلل عنها انقضاءُ الوقت، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز أن ينقطع حيضُها في أثناء هذه الصلاة.
534- ولو خالفت ما أمرناها به، وافتتحت الصلاة الثانية في بقية الوقت، بحيث لو فرض انقطاع الحيض فيها، لما صارت مدركة للصلاة، كما سبق تصوير ذلك، فتخرج عما عليها، ولا يمتنع، والحالة هذه أن يجوز لها تأخير الصلاة الثانية إلى هذا الحد؛ للضرورة التي بها، وازدحام وجوه التشديد عليها، فإذاً توقع الصلاة الثانية على وجه تخرج بها وبالأولى عما عليها، ولا تقع في تغليظٍ آخر.
535- وما أوردنا إنما يفرض في صلاة الصبح، وصلاة العصر، والعشاء.
فأما صلاة الظهر، والمغرب، فلو أوقعتهما في أول الوقت، ثم أوقعتهما في آخر الوقت المختص بهما، وقد أثبتنا للمغرب وقتين، فلا تخرج عما عليها؛ لجواز أن يستمر الحيض على جميع وقت الظهر والعصر، ثم تطهر في آخر وقت العصر، أو آخر الليل بمقدار أربع ركعات ثلاث من هذه الأربع للمغرب وركعة للعشاء فتصير الآن مدركة للصلاتين، فلتصل الظهر والعصر في أول الوقت، ثم يبتدىء القضاء بعد غروب الشمس، كما ذكرناه للأصحاب.
536- ثم الآن نرقى من هذه المرتبة، فنقول: إذا أوجبنا على المتحيرة-وقد راجعتنا- قضاءَ الصلوات في يوم استفْتَتْنا فيه، فلو لم تقضها حتى مضت خمسةَ عشرَ يوماً من أول وقت الاستفتاء، فيجب القطع بأنه لا يجب عليها في هذه المدة إلا قضاء صلاة يوم وليلة على مذهب أبي زيد؛ فإنا إنما نوجب القضاء لاحتمال الانقطاع، ولا يتصور أن ينقطع الحيض في الخمسة عشر إلا مرة واحدة، وهذا يقتضي ألا يجب إلا تدارك صلاة واحدة في هذه المدة، إذا كانت تقيم وظائفها في أوائل الأوقات.
ويحتمل أن يجب تدارك صلاتي جمع، وهما الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، فلما أشكل ذلك، أوجبنا قضاء صلوات يوم وليلة؛ فإن ذلك يشتمل على ما تريد، وتكون هذه كالتي تنسى صلاةً من صلوات يوم وليلة، ولا تدري عينَها، فسبيل الخروج مما عليها إعادة صلوات يوم وليلة.
537- فإن قيل: هذا الذي ذكرتموه الآن يخالف ما قدّمتوه من إيجاب قضاء كل صلاة؛ فإنكم صرتم الآن إلى أنه لا يجب عليها في الخمسةَ عشرَ غيرُ قضاء صلوات يوم وليلة؟
قلنا: هذا الذي أغفله الأصحاب، وهو مقطوع به. والذي قدمناه إذا أرادت أن تخرج في كل يوم عما عليها، وكانت تؤثر البدار، وتقدّر كأنها تموت في مختتم كل ليلة، فأما إذا أخرت القضاء، فلا شك أنه لا يجب في الخمسةَ عشرَ إلا ما ذكرناه.
وهذا فيه إذا كانت تصلي في أوائل الأوقات، فلو أنها كانت تصلي في أوساط الأوقات، فيتصور أن يجب عليها في الخمسةَ عشرَ قضاءُ صلوات يومين وليلتين؛ وسبب ذلك أنها إذا كانت تصلي في وسط الوقت، فقد يطرأ الحيض على صلاة في الوسط، فتبطل وقد ينقطع في وسط أخرى، فتجب، ويتبين فساد عقد هذه الصلاة، ثم يتفق بتوقع الطرآن والانقطاع فسادُ صلاتين مثلين. ثم يُشكل عينُها.
ومن فاتته صلاتان متماثلتان، فلا يحصل استدراكهما إلا بقضاء صلوات يومين وليلتين، ولو كانت تصلي في أول الوقت، فيحتمل وقوعُهما في استمرار الحيض، وانقطاع الحيض في أثناء الوقت، ولو فرض ابتداء الحيض في أثناء الصلاة المقامة في أول الوقت، لما وجبت الصلاة؛ فإنها لم تدرك من الوقت ما يسع لإقامة الفريضة، ولا يجتمع الفساد بسببي الطرآن والانقطاع. وهذا بيّن لمن وفق للتأمل.
538- ثم نرقى من هذه المرتبة، ونجدد العهد أولاً بقاعدة المذهب في المبتدأة، وقد اختلف قول الشافعي في أنها ترد من أول الدم الذي رأته إلى ماذا؟ فقال في قولٍ: "حيضها يوم وليلة"، وقال في قول: "حيضها أغلب الحيض"، ثم إن ردَدْناها إلى أغلب الحيض، فيكون دورُها ثلاثين، سبعة منه حيض، وثلاثة وعشرون منه طهراً.
أو ستة حيض، وأربعة وعشرون طهراً، على ما سبق تفصيل ذلك.
فإذا رددناها إلى أقل الحيض من أول الدم، فالظاهر أنها تُرد إلى أغلب الطهر، وهو ثلاثة وعشرون، (أو أربعة وعشرون).
وفي المسألة وجه بعيد إذا ردت إلى أقل الحيض أنها تُردّ إلى أقل الطهر أيضاً، فيكون دورُها على هذا الوجه البعيد ستةَ عشرَ يوماًً.
فإذا ظهر ما ذكرناه، فنقول: إنما زيّفنا القول بأن المتحيرة كالمبتدأة، من جهة أن ابتداء دورها غيرُ معلوم، والتحكم بردّ ابتداء الدور إلى أوائل شهور العرب بعيدٌ جداًً، وابتداء دور المبتدأة من أول دمها، فهذا وجهٌ واحد في الفرق بينهما، وإلا فلا يمتنع ردّ المتحيرة إلى ما ردّت إليه المبتدأة: من الأغلب والأقل، حملاً للأمر على ما يجري في بيان جنسها، فالذي يتجه إذاً أن نقول:
539- على المتحيرة في كل دور من أدوار المبتدأة قضاء صلوات يومين وليلتين.
فإن قدرنا دورها ثلاثين، فهذه تقضي في كل ثلاثين صلوات يومين وليلتين، إذا كانت تصلي وظيفة الوقت في أثناء الوقت، أو في آخر الوقت، وإن كانت تصلي وظيفة الوقت في أول الوقت، فلا يلزم في دور المبتدأة إلا قضاء يوم وليلة، وقد قررنا ما يقتضي هذا الفرق فيما تقدم.
فهذا منتهى الفكر في هذا الفن.
540- وإن نسبنا ناسب إلى مخالفة الأصحاب، سفهنا عقله، فإن القول في هذه المعاصات يتعلق بمسالك الاحتمالات، وقد مهّد الأئمة القواعد كالتراجم، ووكلوا استقصاءها إلى أصحاب الفطن والقرائح، ونحن نسلّم أيضاًً لمن يبغي مزيداً أن يُبدي شيئاً وراء ما ذكرناه مُفيداً، على شرط أن يكون سديداً.
وبالجملة، النظر الذي يفيد المتحيرة تخفيفاً بالغُ الموقع مستفادٌ؛ فإنه إذا اجتمع عليها دوام العلة، واشتدادُ الضرر، لم يكن التشديد فيها لائقاً بالرخص المألوفة في المضايق.

.باب: في صيام المتحيرة على قول الاحتياط:

قال الشافعي تفريعاً على قول الاحتياط:
541- " المتحيرة تصوم شهر رمضان؛ لجواز أن تكون طاهرة في جميع الشهر، ثم لا يسلم لها من صوم الشهر-إن كمل ثلاثين يوماًً- إلا خمسة عشر يوماًً "؛ فإنها يجوز أنها كانت حائضاً في خمسة عشر يوماً، فيلزمها قضاءُ خمسة عشرَ يوماًً، ولا يتأتى لها ذلك إلا بأن تصوم شهراً كاملاً؛ حتى تستيقن أنها أتت بخمسة عشر في طهر.
542- قال أبو زيد: يفسد عليها من صيام كل شهر ستةَ عشرَ؛ فإن الخمسة عشر إذا ابتدأ في نصف نهار؛ فإنه ينقطع في مثل ذلك الوقت من النهار الأخير، فينبسط على هذا خمسة عشر يوماًً على ستةَ عشر. وإذا كان ممكناً، فالاحتمال في حقها كاليقين إذا كانت مأمورة بالاحتياط.
والذي ذكره الشافعي فيه: إذا كان يبتدئها في أول اليوم بحيث لا يتعدّى إلى السادسَ عشرَ.
543- ثم اختلف أصحابنا: فمنهم من قطع بما ذكره أبو زيد، ومنهم من رأى المنقول عن الشافعي مذهباً. وهذا التردّد هو الذي ذكرناه للأصحاب في قضاء الصلوات التي تؤديها؛ فإن الشافعي لم يتعرض للقضاء، واستدركه أبو زيد.
ثم قال أبو زيد: إذا كنا نأخذ بفساد ستة عشر يوماً، فإذا صامت شهراً آخر، فلا يحصل لها منه إلا أربعةَ عشرَ يوماً، لجواز فساد ستةَ عشرَ يوماًً بخمسة عشر كما سبق، فيبقى عليها قضاء يومين.
وسنذكر في باب قضاء الصلاة والصوم كيفية قضاء اليومين، مع ما يتعلق به-إن شاء الله عز وجل.
544- والذي يجب استدراكه في ذلك، إذا رأينا أن تُردَّ المبتدأة إلى سبعة أيام في ثلاثين يوماًً، ونحكم لها بالنقاء ثلاثة وعشرين يوماًً، فيتجه أن يقدر حيض المتحيرة سبعة في كل ثلاثين؛ فإنه لا فرق بينها وبين المبتدأة إلا في شيء واحد، وهو أنا نعرف ابتداء دور المبتدأة؛ ويستحيل أن نتحكم بتقدير ابتداء الدور للمتحيرة، فأما تنزيلها على غالب الحيض في كل ثلاثين قياساً على المبتدأة، فمتوجِّهٌ لا ينقدح غيره، فليقدّر لها سبعة أيام في شهر رمضان، ثم قد تفسد ثمانية أيام بسبعة، فيصح اثنان وعشرون يوماً.
فإن قيل: هذا عودٌ منكم إلى القول الضعيف في أن المتحيرة كالمبتدأة.
قلنا: هي مقطوعة عن المبتدأة في إثبات ابتداء الدور؛ فإن المبتدأة نحيّضها من أول الدور، ثم نبني أدوارها على ذلك الأول، ولا يتأتى ذلك في المتحيرة على قول الاحتياط.
فأما ردّها إلى الغالب فيما يتعلق بالعدد، إذا انتهى تفريعٌ إليه من غير تحكم بإثبات أوّليْة، فلا يتوجه غيره، فأقصى ما يتخيله الفارق، أن المتحيرة قد كانت لها عادات، فلا تأمن تخالف تلك العادات لو رددناها إلى الغالب، والمبتدأة ما سبقت لها عادة.
وهذا الفرق لا يرتضيه الفقيه؛ فإن المبتدأة ربما كانت تحيض عشرة، لو لم تُستحض، ثم من حاضت واستحيضت، ونسيت ابتداء دورها، فهي متحيرة، يُفرَّعُ أمرُها على ما ذكرناه، وإن لم تسبق لها عادة في الأدوار مستقيمة.
فهذا منتهى القول في ذلك. والله أعلم.